شعر بذاكرة ناقصة

 

 

لا يمكن التسليم بأن الشعر ليس إلا تعبير عن مثل أعلى يعتقده الشاعر، فقد يذهب الشاعر إلى توهمات الغير على أنها المادة التي ينتج منها نصه، كما أن النص رهين الانفعال الآني الذي يخضع له الفعل بكل مزاجيته الحادة، وقد يذهب الشاعر إلى نص يتوهمه فيكتشف أن فيزياء الكلمة والتركيب اللفظي والجرس السمعي وغيرها من عناصر أطلقت لنفسها العنان في رسم طريق النص، وكل ذلك ليس صادراً عن إرادة كاملة من الكاتب، وإن كان كل فعل يصدر عنه خاضع للإرادة، هذا ما يشير إليه الفلاسفة بقولهم، أن كل فعل يصدر عن الإنسان إنما هو صادر عن إرادة، سواء باطنة منها أو ظاهرة، وبذلك يلعب الوعي واللاوعي في تشكل هذا النص، بالرغم من اعتقادي أن لكل نص مبدأ وخطة بنائية قد لا تكون من تورطات الكاتب مع سبق إصرار وترصد، إلا أنها شيء يساوق فعل الكتابة لدى الكاتب، غير أنني لا يمكنني أن أثبت هذا العنصر بشكل واضح، فهي محاولة توصيف للعملية فقط، فعندما أحاول فهم النص من حيث التركيب أكتشف أنه من الصعب أن أضع قالباً معيناً للنص، فلا يمكن أن يكون نص ما جميلاً دون أن يحمل شيء من الغرابة والدهشة، فهو بذلك يكسر أفق التوقع.

 

النص بوصفه شعراً لا يخضع لثبات فهمه، وذلك ما أثبتته الصيرورة، ولكن هناك عنصر ثابت في الإنسان يتجاوب مع الشعر بوصفه جمالية، وذلك لخضوع الإنسان لحساسيتها، وهي حساسية ثابتة، أما الشيء المتغير الذي أشرت له فهو فهم الشعر فقط، فيمكننا أن نصف النص سواء العمودي أو التفعيلي أو النثري بصفة الجمال أو عدمه جدلا، لكن لا يمكننا حصر فهمه لهذه الحدة في التوصيف، فالفهم هو المعنى الذي يعتقده الإنسان عن شيء عن طريق تجريد لانطباعاته الحسية، وهو رهين الذائقة التي هي نتاج الخبرات السابقة والأحكام الجاهزة التي نشأت في العقل الباطن أو الظاهر منه، وقد يشار إلى الشعر على أنه حالة تعبير، وهي كلمة تتجه إلى توصيف ردود الأفعال الوجدانية للإنسان، غير أن الفهم في حد ذاته يعد طريقة للتعبير عن إدراك المعنى أيضاً، وإن كان من الممكن أن نحلل الشعر إلى مصطلحات ذهنية، مثل الوزن والإيقاع والتناغم، غير أنه لا يسلم من الذوق، فلذلك إننا لا نعتبره نتاجاً ذهنياً صرفا لفعل الكاتب، فهو من جهة أخرى شعور موجه، وهذه الرؤية التي تجرني لعدم وصف الشعر البدائي أنه مرحلة الانحطاط أو التخلف، وأن الشعر الحديث هو ذروة الوعي والتطور؛ فالشعر تعبير عن إحساس الكاتب في لحظة زمكانية، وهو بذلك معبرا عن مرحلته وخصوصيتها، وأما عناصر وآليات التعبير فهي موقوتة، فلا يمكننا وصف نص الإلياذة بالتخلف مقابل أليوت، أو نصف السياب بأنه أكثر شاعرية من المتنبي، قد يكون السياب بالنسبة للعصر الحديث أقل تعقيداً من المتنبي، ولكن الشعر لم يعد يقيم على أساس تعقيده، فهي مسألة نسبية، تختلف باختلاف الزمان.

 

وفي كل مرحلة من مراحل الشعر، هناك خروج على التقليد، وأعتقد أن الخروج على التقليد والمتعارف خروج هادف، ولا أقصد بهادف هنا صفة سلب أو إيجاب، خروج خاضع لرغبة الكاتب في وضع نص جديد أو نص معين يقترحه، أو شهوة إيجاد نماذج أخرى غير النموذج المثالي الذي كرسه التعليم أو المجتمع، وهو دعوة لإمكانية القول وعدم نفاذها، وقد يكون رغبة في خلق نص متعال على نظام الواقع، شيء قد يخضع للروح فقط، ولذلك فالنص هو جزء من مسك الزمن ووضعه في الكلام.

 

إن الدوافع النفسية وراء اختيار الكاتب لفعل معين، هي دوافع غامضة، لا تخضع لهراء النقاد التحليلي، على الرغم من إمكانية تبرير أو توضيح سيكولوجية الاختيار عن طريق ما يحيط بالكاتب، ولكن الرغبة التي تحثنا على اختيار كلمة ذات طعم ورائحة وملمس معين في مكان معين في النص، قد لا نجد ضرورة لها، أو محاولة خلق تناغم معين بين الكلمات، هي لون من ألوان الغريزة التي دفعت الكاتب إلى ترتيب أحداث نصه بصورة غير مدركة بعض الأحيان، غريزة غير مهذبة أو معلنة، فليس الكاتب أو المبدع كما أشرت إلى ذلك من قبل، معد بما يكفي لوصف عملياته السيكولوجية، من كيفية كتابته واختياره لكلمة دون أخرى، وكل ما يفترض أن يدخل في هذه الدائرة، إلا أن الكاتب دفعه الدفاع عن نفسه والتعبير عنها، إلى مراقبة ذاته والتعمق في الأسباب الكامنة وراء فعله الإبداعي، وهذا ما أخرج لنا الكثير من آراء الكتاب إلى نافذة الضوء.