"بيت المكان" عند ابن أبي البحراني

 

 

قال لي ما تقول يا ابن البحراني في المكان، وحين تسبغ عليه نعت الجمال فإلى أيها تشير، أقول: أفهم المكان المحسوس دون المعقول[1]، فحين أسمعه أشمه أراه أتذوقه أو أجوس فيه، أخلع عليه الألفة، ويطبع في ذاكرتي على درجة من أمره في النفس.

 

أقول حين نحاول الحديث عن المكان على جهة أنه جمالية، فنحن نحاول الإمساك بهذا المكان وتقليبه، وتفكيك نظرتنا وشعورنا نحوه، وهنا يكمن فعل التجريد، مما يجعلنا نذهب في كمين النقد، ونضع أرجلنا في فخاخ حدة التركيز، وندلف بعِدة أجسادنا على الفكر، غير أن الألفة للحيز تشغلنا دون التفكير بماهيتها، وهي مفتاح جمالية المكان، والقصيدة الكامنة فيه، وحذاء الراوية المربوط بطريقها، وخيوط قلب اللوحة المفتوحة عليه، وهي كذلك ميلنا الخفيف نحو بيوت طفولتنا، ورفوف ذاكرتنا التي تنتمي بشكل أو بآخر إلى زوايا المكان، هي لحظة تعثرنا بأول كلمة، ولمسنا لأول نهد، واكتشافنا لخارطة أجسادنا، وهذا ما أطلق عليه "بيت المكان[2]".

 

أقول وحين نسهو قليلا عن الخارج المكان، المكان الذي هو خارج عن الجسد، الداخل في ذاكرته، فإننا نسترجع أجزاء لها ضلع في دربته، وخطوط أدخلته التشكل، وأكسبته تهمة الألفة، وما وقوف الشعر على الطلل إلا وقوف على الجسد، وقوف على الذاكرة المتنقلة، والحقيبة التي تعلق خيوطها بالأثر، واتصالها بحواس الجسد، "فإن قلت وما الجسد قلنا كل روح أو معنى ظهر في صورة[3]"، من هنا فإن المتهم بالجمالية هو الجسد، بوصفه "بيت المكان"، وألفة المتذوق الراكن للمكان الخارجي، على جهة أنه ضالع في خطيئة أبينا آدم، هذه الخطيئة التي منحته فردانيته، وقدرته على الذهاب في ذاته، وجعلها محورا، يكون بها المكان المحاط بالأمكنة، منه تأخذ عنه جماليتها، ومنها يأخذ منه اتساع الجمالية وتفاعلها.

 

أقول وعليه نقول أن المرأة الجسد المكان المادي، وأن المرأة الروح مكان يحلُّ في مكان نطلق عليه مجازا الجسد، وهي تدخل الرجل فيرى بعينيها الجمال، فيطلق على ذلك المؤنث منه، تنزعه إلى التأملات، والراحة والخيال والشاعرية[4]، وقوله "ذكر أو أنثى اعتباره في الذكر العقل وفي الأنثى النفس[5]"، فإذا شارك الرجل ذاته، ذهب في شاعريته، وشَعْرَنَ الأشياء من حوله، وإذا انقطع عن ذاته جلف وقلّت حميمية المكان فيه، فنفرقه بكثافة ذاته، وقدرة الذات من نفسها، لذلك إن الـ"مكان الذي لا يؤنث لا يعوّل عليه[6]"، و"كل صمت لا يحتوي الكلام لا يعوّل عليه[7]"، و"كل معنى احتوته عبارة لا يعوّل عليه[8]"، أما الأول فمقتضاه ما جاء أعلاه، وأما الثاني والثالث فيسأل عنه مولاه.

 

الجسد الخلق بوصفه مكان، خلقه من طين، فلما اكتمل قذف فيه الروح، فحل المكان في المكان، فأمكن منه حداً إذا فصلته عنه سقط الأول بالثاني والعكس، وحين جلس يدير الجسد على إناء الخلق، أدرك أنه الجمالية التي تدفعه لقول "سبحاني" على نفسه، فكانت الأشياء مرتبطة بالجسد، دائرة إليه في نفسها، حتى وضعه على رأس هرمها، منتفع بدونه من مسكن ومأكل ومشرب، وبه صرّف المقادير، فكان الجسد آية تدل على خالقها، بما أوجد فيها من قدرته وابتداعه، فوضع فيه كمائن فتنته، وقيض له بدائع سطوته، وامتحنه به، وإلا كيف أجاز تعذيب روحه بجسده، إذاً لسقطت عدالته، وانتهى من كون صفاته عين ذاته، ثم أغراه بالجسد المكان، وقال سكن لك، وهل يُسكن غير المكان! وذهب في وصفه بمواضع فتنته وجماليته، فقال كاعب بكر حور، وذهب في غرائزه بالعسل والخمر، ولما نفخ في الجسد تأنث الجسد، فكان مكانا للزراعة والحرث.

 

والجسد المكان بوصفه مكان الأمكنة، أو "بيت المكان"، قيل هو الاستواء[9]، وقيل "أن المكان صفة لبعض الأجسام لا لكلها[10]"، باعتبار انقسامها إلى المادة والماوراء، غير أن المكان منسحب عليهما، وعلى خالقهما حتى صح أن يقول: "أن قلب المؤمن بيته"، إلا أنه "لا يجرى عليه السكون والحركة[11]"، والجسد المكان مكمن اللذة والحرمان، وحاصل النعت، وإن جرى على ما دونه جرى اعتباراً، كقولنا الرائحة أو البيت أو الفكرة منعوت بالجمال، فهي تستمد جمالها من الجسد المكان الذي هو العقل أو الحواس، وعليه أيضاً ينتفي الزمان بانتفاء المكان، وهو مساوق له في الوجود، ملازم له في الحركة، لكنه يجري عليه مجرى العرض على الجوهر، فمكانه المكان، وعمله مرتبط به، قائم وجوده بوجوده، ولذاك أشكل على العدم بوصفه مكان، وقيل هو المكان المتخيلُ، فامتنع في الواقع، وامتثل في العقل، واعلم أن الجسد بوصفه "بيت المكان"، حصل له الكثرة في الوحدة، فهو واحد بوصفه جسد، كثير بالأمكنة التي هي أجزاءه وكماله، منها المكان البصر والمكان السمع والمكان الشم والمكان الطعم ثم المكان اللمس، وهي أمكنة تسبغ ما حول الجسد من أمكنة بالألفة، فتصبح اعتبارا هذه الأمكنة منعوتة بالجمال أو القبح، ولذاك صح قولنا للفاتنة جسدها كثير، فالحواس في شُغلٍ متنافسة، أيها يتبارك بسبغ النعمة على النعمة.

 

فالمكان البصر.. "تحول لي في صورة[12]" البصر، وتحولت له في سيرة الحُمى والسهر، وإن قلتَ ما المكان البصر أقول: هو اكتمال الرؤيا، وحسن تجليها في البصر، وانحناءة الأنثى ودوائرها، والمسافة الساقطة بين الأذن والرقبة، وانبساط شفتها على الأخرى، وحدة أنفها الأنيق، وهو استدارت أقمارها، ونضوج ثمارها لدى الرائي، وانحسار طينها عن سرتها، وانحداره عن شاهق بطنها، وهو خزينة الجمال النظر في الموجودات ومكانها، وقاسم تصنيفها في الحسن والقبح، بحسب مسبقات ذهنه، إلا أنها للفطرة أميلُ.

 

والمكان السمع.. تحول لي في صورة السمع، وتحولت له في سيرة الآخذ بالجمع، وإن قلتَ ما المكان السمع فأقول: هو انسياب حديثها من الأذن إلى الروح، وصب الماء في النفس، وهو تعرجات النطق لمراقصة سامعيها، فترفع من ذائقتها، وتستولي على حواسها، صاعدة لا بتكليف، منخفضة لا بتزييف، حاصل لها الوجد، فتوجد الأشياء من حولها، آلتها الصوت، وغايتها الجمال، فأينما تسقطه يمثل الإيقاع، وأينما يسمع يحل فيه، ترمي فتصيب، وتستجلي بأصابع صوتها الأطراف، كأنها موكولة لها في منازلها، وبذلك هي خزينة الجمال السمع في الموجودات ومكانها، وقاسم تصنيفها في الحسن والقبح، بحسب مسبقّات ذهنه، إلا أنها للفطرة أميلُ.

 

والمكان الشم.. تحول لي في صورة الشم، فتحولت له في سيرة القٌبلِ والضم، وإن قلت ما المكان الشم أقول: هو موضع الصدر، وكرز زهرتيه، وهو قرين الجمال في شفتيه، فأين ما تضع يزهر، وأين ما يندسُّ تفضحه رائحة البنفسج، يدور مدارها، ويقيم ركابها، يعطي ويأخذ، قائم عليها مقام ربوبيته، مستولي على المتحلقين بذكرها، تهشهم إلى مياسم زهرها هش الراعي، ودراية الكاهن المستوثق رقيته، وهي بذاك خزينة الجمال الشم في الموجودات ومكانها، وقاسم تصنيفها في الحسن والقبح، بحسب مسبّقات ذهنه، إلا أنها للفطرة أميلُ.

 

والمكان الطعم.. تحول لي في صورة الطعم، وتحولت له في سيرة النهد والفم، وإن قلتَ ما المكان الطعم فأقول: هو عسل الفم، والحليب المشغول بكوكبيها، وهو انفراج الشفة عن صاحبتها حين العناق، تأخذ به الأشياء حلاوتها ولذاعتها، فلا يشبع من وجودها في الذاكرة، حيث تحث النفس فلا ترغب عنها، ولا تفتر قوادمها منها، تأخذك على مساقها بالألفة، وتشوقك بها، موكولة لها أمور الطعم، فهي بذلك خزينته ومكانه، وقاسم تصنيفه للحسن والقبيح وعنانه، بحسب مسبّقات ذهنك، إلا أنها للفطرة أميلُ.

 

المكان اللمس.. تحول لي في صورة اللمس، وتحولت له في سيرة المس، وإن قلتَ ما المكان اللمس أقول:  هو سقوط الأصابع على استدارة التفاح، وانتقالها إلى قراءة خارطة الجسد، هو اشتباك الأصابع، ونقل ملفات الرغبة باللمس، هو تحسس أبداع الله بأصابعه وجسده ولسانه، هو الالتصاق حدا لا يفرق فيه الرائي كونهما واحد أو اثنين، وهو اكتمال الصورة في الروح، وكلامها بالجسد، وهو بذلك خزينة الجمال اللمس ومكانه، وقاسم تصنيفه للحسن والقبح فيه، بحسب مسبّقات ذهنه، إلا أنه للفطرة أميلُ.


 


[1]  تقسيم القوى إلى محسوسات ومعقولات.

[2]  من مصطلح "بيت الأشياء" باشلار.

 [3] الفتوحات المكية.

 [4] باشلار جماليات المكان.

 [5] الفتوحات المكية.

 [6] رسالة لابن عربي.

 [7] رسالة لابن عربي.

 [8] رسالة لابن عربي.

 [9] ابن عربي الفتوحات

 [10] إخوان الصفا

[11]  نهج البلاغة

[12]  أبن عربي في إشارة إلى مطلقه.