مظفر النّواب لا يصلح للفرح

 

 

التقيته بدمشق، مسكوناً بالصمت، حاد الذكاء يصعب على المرء اختراقه أو استدراجه لحديث لم يرده، ذا قامة فارعة، تطاول قامته الستين، تحمل تقاسيمه حزن العراق، وعلى ثغره بسمة أطفاله، شارد إلى ضفة الفرات، حاضر بكلماته التي لا يغفل أنها زنابق شاعر خارج للتو من قصيدةٍ، لم يتقن الظهور ولم يسمح لي بهاءه أن أبتذل الكلام في مدحه، فشخصه عصي على ذلك أبدا، طلبنا شاي و(جراك) غير أنني ولا أخفيك لست بذي تجربة في التعامل مع هذه النوعية من الدخان الغبي وربما كان واضحاً علي ذلك.

 

تكلمنا عن شعره، عن حضور كربلاء، عن الغربة التي تفيض من جنباته، لم يكن من الصعب عليه أن ينهض من غيابه أو من صمته ليلقي علي على حين سؤال إجابة غير متوقعة.. نعم كان هو القصيدة أكثر منها حضوراً.

 

أخذت طرف الحديث متنقّلاً مباغتاً فتكلمت عن المذكرات وحق الشعوب في معرفة المسكوت عنه، وأنه بي رغبة تشدني لكتابة رواية ترتبط بالواقع، لم يثره ذلك ولم يكترث وكأني كنتُ مكلماً شخصاً غيره أو ربما كان ذاهباً في إحدى شروداته المتصلة، لفّني الصمتُ لم أستفق إلى على وقع النادل الذي طلب مني أن أبعد يدي ليضع ما طلبناه، ثم أشار إليه بذلك أيضاً، سحب يده دون أن يعير النادل انتباهاً مخلفاً فيَ انطباعاً بتكرار المشهد أمامه.

 

شدني صمت آخر كان قادماً هذه المرة من الداخل من مكان خصص لهذا العنيد الجميل الذي يجلس أمامي، أشعلت سيجارة ولم يكن الجراك قد انطفأ تبغه فقد كنت لا ألتذ إلا بهذه السيجارة السيئة التي لا أعرف من أنزل بأمها قطران الجنة.

وعندما انتهى النادل من كل الفوضى التي وضعها على صمتنا ألقى نظرة عليه، رفع رأسه رامياً إياه بطرفه، لا أعرف ربما كنت أجهل هذا الدور أو اللذة التي يحس بها النادل، كأنما هناك رابط بينهما أو ربما كان فعل التكرار أوجد هذا الشيء الخفي.

 

ارتشف من قدحه وأرسل يده الأخرى على الطاولة اللعينة، كانت ارتشافته بطيئة أحضرت في نفسه الشاي البصري الموجع بالنعناع ربما، لم أكن مطمئناً لهذا الأجرب الموغل في الغموض، أيقظني ابن أمه كأنه عرف ما كان يدور في البندقة المركونة على جسدي فقال: »لا أشعر أنني بحاجة لموت جماعي دفعة واحدة«!.

هل كنت مستعداً للتنازل؟ أم هل كان الأمر غير ذي أهمية أصلاً؟ لم أشأ إدخال نفسي في تحد قد لا أخرج منه سليم الروح، أخذت نفساً من هذا الملفوف بين أصابعي، قد لا يكون تبغاً كنت على يقين من بديهتي إلا أن كل ذلك لم يكن ضمن القاعدة أو قياس الاحتمالات، والأدهى أنه لم يكن ينتظر رداً مما جعلني أردد من خارج دائرة الوعي وأنا أشرب الشاي أبيات حفظتها .

و أنا

أستعير بلاداً

لأمنحها قامتي

أو لتمنحني نصف أحزانها

ليس فرق هنالك سيدتي.

لم أعرف ماذا حدث غير أنه انتقل إلى حالة من الصمت العميق الممسوح بحزن أو شيء من شجن مواويل دجلة، جعلني أدخل معه هذه المرة في نوبته ابن الساقطة هذا، ومن بعد فترة لستُ مجبراً على تحديدها ربما قليلة أو.. لا يهم.. ندّت عنه آهة أكاد أجزم أنها لم تبلغ مسمعي حتى نشبت أظافرها في حلقه.

 

بقيت برهة واعتذرتُ مطفأً لقاءنا على أمل حزنٍ أو لقاءٍ آخر، لم يرفع رأسه ولكنه نادى على النادل وأسر له بأذنه فقام النادل بكتابة أمر ما على ورق أخرجه من جيبه، لم أرى منه إلا خطه البارد الذي لا يدل أبداً على مهنته ثم أعطانيه، لقد كان عنوان بيت الأجرب الذي أمامي، احترمت فيه كل بهاء الحزن مغلقاً ورائي يوماً لا يكفي لذاكرة واحدة.