الورقة فيها اسم الله: عبثَ فيها العقيد الفار كما يعبث في الحوار اليوم!

 

مرآة البحرين (خاص): "أخذ القلم وكتب على ورقة صغيرة كلمة الله، رفعها ليريني إياها، قائلاً ما هذا؟تحرك رأسي إشارة إلى فهم الكلمة، ثم وضعها في الدرج وهو يقول: أين الله الآن؟... الله في الدرج وأنا هنا الآن. ثم سألني: هل تعرف من أنا؟ لم أجد جواباً أيضاً، لم أعرف إن كان هو الله، أو أحد آخر في دوره" على الجلاوي، الله بعد العاشرة: رواية سجين متقاعد، ص31.

 
لا يحكي علي الجلاوي، في روايته الصادرة قبل أسبوعين، حكاية سجنه في التسعينيات فقط، بل يحكي أيضاً بشكل متشابك رواية خروجه من سجن الأيدولوجيا التي تزامنت مع خروجه من سجن التسعينيات. لم يكن الجلاوي يدك وهو يدفع بروايته لدار رياض الريس في يونيو2009. أن تأخير صدور الرواية الذي تذمر منه كثيرا، كان في صالح روايته. ففي 2009 لم تكن سجون البحرين، مكاناً ضاجاً بالحكايات والقصص، ولم يكن الناس ينتظرون أحبتهم ليسرود عليهم حيواتهم المثيرة خلف جدران سجون القلعة والحوض الجاف وجزيرة أم النعسان، وجدة.

 
إنها تصدر الآن في وقتها، حيث تجربة السجن طرية ومعاشة بشكل يومي، وشهية الناس مفتوحة على سرديات السجن. عادل فليفل الذي وضع عنوان رواية الجلاوي من غير أن يقصد، هو نفسه عادل فليفل الذي سيكون لمرئياته في لجنة الحوار الوطني، حقها في تقرير مصير البلاد، جنباً إلى جنب مع الشخصيات الوطنية والمؤسسات الوطنية، وهو نفسه الذي " أخرج من درج طاولته مسدسا ووضعه عليها مردفا:" في الخارج الناس مشغولة بالأحداث، يمكنني قتلك، رمي جثتك في الزبالة، صدقني لن يسأل عنك أحد، لذلك اعترف" رواية الله بعد العاشرة، ص32. كان (فليفل) يلتذ أن يلعب ب(الله) بعد العاشرة، يضعه في طاولته، ويصير هو الله، والمساجين عباده الذين عليهم الاعتراف بالذنب والمبالغة في طلب التوبة.

 
فليفل يعرف أنه متى تمكن من استخدام (لله) فإنه يتمكن من إدارة اللعبة باقتدار، في تجربة السجن كان يكتبه في ورقة، ويتحكم في السجين بعدها، وفي تجربة الحوار الوطني، يخرجه من الطاولة ويطلقه في محطيه الاجتماعي، ويكسب به ما كان يكسب به في السجن، إنه يكسب الاعتراف، الاعتراف به رجلا قادراً على أن يحكم مصير الناس كما الله يحكم مصير الناس، والاعتراف به رجل سلطة يمكنه عبر ورقة الله أن يجبر الناس الذين يهددون مصير الحكم، أن يعترفوا، ليرسلهم لمصيرهم الذي يقرره هو، هو وحده بمسدسه.

 
(عادل فليفل)بنسخه المتعددة، هو الله بعد العاشرة، لا شريك له، السجان والمحقق، الذي يرسل من يشاء إلى الزبالة، ويرسل من يشاء إلى وجبات التعذيب، ويرسل من يشاء إلى طاولة الحوار. يحضر (الله) بغزارة في رواية الجلاوي، يفتتح روايته به "هل كنت أحب الله". إنه سؤال صادم، بحجم الصدمة التي تركتها تجربة التحقيق في الطابق السادس، من مبنى المخابرات، هناك حيث كان (الله) لعبة يديرها رجل السلطة، رجل المخابرات، رجل التحقيقات.

 
يأتي جواب الجلاوي باستدركات من يعيد مراجعة سيرته وسيرة حبه وفكره " نعم أحب الله... غير أن الله الذي يخصني يختلف قليلا أو كثيرا عن الذي هو لكم... لم يعد(الله) جلادا يضع السلاسل في أعناقنا" رواية الله بعد العاشرة، ص13.


الله حاضر في تجربة الرواية، أكثر مما كان يظن المحقق أنه غائب فوق طاولة التحقيق. لم يعد الله الذي يلعب به المحقق، هو مشكلة الجلاوي فقط، بل غدا الله الذي يتحدث باسمه الجميع: رجال الدين، ورجال المخابرات، وأصحاب الأيديولوجيات، والملالي، وأصحاب الدروس الدينية. غدا إشكالية في تجربته الوجودية وتجربته الروائية، وربما يكون هذا سر من أسرار تميز تجربة الجلاوي الروائية، واستمرار هذا التميز مرهون بقدرته على المضي بهذا الإشكالية بشكل جمالي أعمق. العنوان الفرعي للرواية (رواية سجين سياسي متقاعد)، لكني أقرأه الآن هكذا (رواية سجين سياسي متفائل)، لأن الجلاوي منذ ألقى قصيدته المعروفة في دوار اللؤلؤة، مستعيدا شيئا من وهجه الثوري الذي أكسبه حضوراً جماهيريا في التسعينيات، منذ هذه القصيدة وهو مشروع سجين سياسي، كما هو حال جميع الشعراء والمثقفين والإعلاميين الذي كانوا ينشدون قصائد حريتهم بين نخيل الدوار.

 
ربما تقاعد الجلاوي، تقاعد عن أن يكون أفقه في أمنية سجين، وربما تقاعد عن أن يجد بطولته في السجن حيث هناك ينتظره الله بعد العاشرة، لكنه لم يتقاعد عن أن يكون مشروع حر، يناضل من أجل تحرير الله في تجربته الروائية، تحريره من سجن السلطة وسجن الناس الذين يحبسون الله في سجون عقائدهم الضيقة، ويتوعدون من يخرج عليها بالويل والثبور. متقاعد عن السجن، لكنك، يا جلاوي، لست متقاعدا عن روايته.