الجلاوي فـي «كرزة»: فتى يبحث عن قميص الأنوثة.. وحبيبة فـي قرطبة

بقلم : أحمد المؤذن



من أول لحظة لدخولك أجواء ديوان ''تشتعل كرزة نهد'' للشاعر علي الجلاوي وهو آخر دواوينه تجد معمار اللغة في تشكلاتها حاضرة في عمق المعنى بشيء من روح المغامرة، مؤكدة بوعي أن الجلاوي ينحت لنفسه مقعده الشعري الخاص فوق منصة الشعر، ليؤسس لانطلاقة تعرف أولوياتها في المشهد الشعري البحريني المعاصر.


يورد في قصيدته ''إخوة الذئب'': ''يقول الفتي/ أضرموا في القصيدة نصف الكلام/ وبائعة الورد تغسل شرفتها/ من غد عابر/ حين مر الفتى/ مر أغنية في يديها/ وحط على شجر ناهض عن قميص أنوثتها/ أو مصاب بزوجتي يمام/ يقول الفتى: صاحبي الدرب يمضي بنا للقصيدة/ نكبر، نجتاز دراق جيراننا/ ثم نبكي لأنا تركنا أخانا مع الذئب''.


المقطع الأول من هذه القصيدة يشف ''الجلاوي'' في ارتقائه الحالة الوجدانية، لا يبدو في عجلة من أمره وهو يستهل القصيدة ''يقول الفتي'' وكأنه سيحكي حكاية ما بحيث ينأى عن المباشرة، يدخلنا إلى جو القصيدة ويتبرأ من فض بكارتها وهو أول من يشغل الفتيل، يحمل القصيدة تدفق المكان يرتحل منقباً في الماضي.


الماضي هنا انعطافة دلالية تتلبس روح السرد ولازلنا نعبر الحكاية، حكاية تعرفنا على ''الفتى'' الذائب حباً وهو يبحث عن قميص الأنوثة واخضرار شهوتها المغنية.. حتى إدخال ثيمة اللون الأخضر ضمن دائرة الوصف دلالة على تفتح وعنفوان الأنوثة التي تسكن مخيلة الشاعر: تشحن الكلمات بهذا التفتح العفوي الجميل الذي يجذب القصيدة فخ المباشرة الفجة التي تشعرنا كمتلقين أن هذا النص تغلب عليه الصنعة، هنا يأخذ الشاعر حذره ويتجاوز مثل هذا المطب الفني برشاقة أسلوبية تحفز على متابعة القراءة.


الصورة الشعرية في هذا الإصدار كما بقية إصدارات ''الجلاوي'' تحلق في فضاءاتها الدلالية ضمن حالات معمارية تضفي على كل نص مناخا مختلفا يتذبذب بروح رمزية تعالج ''أنا'' الشاعر وتصهرها في ''الأنا الجمعية للمتلقي'' وهو ما يترك لنا مساحة حرة نتوغل في زواياها فتكتشف أن الشاعر يخبز أرغفته النصية في تنور التجربة، لا يتوه عن أدواته وقد خبر أوان النضج كما يجب، بداية من اللغة التي تمارس حضوراً قوياً وبسيطاً، ''تعد البساطة في اللغة من أهم مظاهر أسلوب القصيدة الحديثة، فالشاعر الحديث يضع في ذهنه البعد عن الغرابة اللفظية التي تنفر القارئ، إذ أنه يستخدم اللغة ذات الطاقة الإيحائية التي تجذب القارئ''. (د.محمد حسن عبدالمحسن - مجلة الموقف الأدبي/ عدد 373 مايو/ أيار 2002).


ذاكرة الشاعر تجسد رؤيتها في ثيمة ''الحبيبة'' وتطرحها كمعادل موضوعي يتمثل في ''قرطبة'' هذه المدينة العربية المرتبطة بفردوس الأندلس الماضي من تاريخنا المفقود، وماهية التقريب هنا نتخذ بعدها التاريخي تعطي كاشفة ''زمكانية'' تبرز خوف الشاعر من فقد حبيبته، هنا يتحول النص عند ''الجلاوي'' إلى كائن شعري مستقل الوجود. له أن يعبر عن اختلاجاته الوجدانية وهواجسه، وكأن النص يكتب نفسه حينما يعتمد منهج الشاعر أسلوب التداعي الحر وهو يكتب القصيدة من الداخل ثم ينحت في تفاصيلها من الخارج حرصاً على هوية الشكل الفني وتقنية الكتابة، التي هي في النهاية تمثل بصمة الشاعر وكيميائية أسلوبه الخاص، فالشكل الصافي للرؤية التي على أساسها يقرأ الشاعر ما حوله ويحدد نظرته من العالم والأشياء، تقول لنا.. إن هناك حركة اتصال وانفصال دائبين بين الذات والموضوع في مجمل خطاب ''الجلاوي'' الشعري، وسط هذه المشهدية الضاجة بالتنوع الغني نعبر ''تشكل كرزة نهد'' وقد تأسست لدينا قناعة.. أساسها ما ينجح الشاعر في إبرازه على السطح العائم من النص وحالة التقلب والتأزيم التي يمارسها، انطلاقاً من تكثيف الصورة الشعرية وشحنها بالجديد من روح المغايرة.


وفي قصيدة ''ليت الفتى حجر'' يقول:
''
وأنا.. أنا/ حاولت أن أبدو كغيري/ واضحاً أو باهت القدمين/ يمسك ظله من رجله/ ويعيد ترتيب الكمان إلى قميصك/ ثم حاولني/ فكنت أنا.. أنا/ لي زورق قرطاس أدفعه إلى مجرى الزمان/ ويا قتي مقلوبة وأعود من نفسي/ ولي شك البنفسج/ حين يصعد سلم الأسوار/ يلقي بالقصيدة بين نهدي سيدة''.


في هذا المقطع من القصيدة نكتشف إلى أي مدى تكمن قدرة النص ذي الطابع المتشظي في بلوغ هدفه، ''ليت الفتى حجر'' أشبه ما يكون باستيقاظ ذاكرة الطفولة تمتزج بهذيان الماضي يستبطن الحاضر ضمن منظومة فنية ''الجلاوي'' يفكك عراها المتسقة وينبش فضاءاتها انطلاقاً من توجه النص الحديث.. ''النص الحديث أو الجديد فيقدم نفسه، كقطيعة وعلاقة فارقة تكشف عن المستوى الكبير الذي توصلت إليه منجزات ''الحداثة'' في مجال تعاملها مع اللغة، لقد حول ''النص الجديد'' اللغة من مجرد وعاء حامل للدلالة إلى فضاء مفتوح على كل أشكال التجريب''. (ما بعد الحداثة والنص الأخير/ مالك بوذيبه/ مجلة البيان العدد 341 ديسمبر/ كانون الأول 1998 - الكويت). فالتوجه نحو التجريب إن لم يكن يتكئ إلى مخزون معرفي متراكم لدى الشاعر يتحول إلى انتحار إبداعي تكون له توابعه السلبية على التجربة، ولا شك أن ديوان ''تشتعل كرزة نهد'' قد توغل في كسر المألوف من الأطر الشعرية الجاهزة أو تلك التي تشعر لحظة فراغك من قراءتها إنها عبارة عن تقليد صرف ومشوه منقول عن أسلوب قامة شعرية عربية معروفة، يحاول عن طريقها هذا الشاعر المتكاسل الحصول على وصفة سحرية ومجانية الشهية.


تشعر وأنت في ضيافة ''الجلاوي'' مقبلاً على وجباته الشعرية، أنك ضمن بهرجة المعنى وفتنة اللغة، حيث يمتلئ الديوان بمفردات مثل.. ''ماء، النهد، الأسوار، قميصك، الجارات، التفاح، والبحر، الحلم'' إلخ من هذه المفردات المتقابلة المتضادة في إيحاءاتها والتي تكشف عن مخاض دلالي يفضح عطش النفس الإنسانية، فلا التفاح في حقيقة أمره مجرد تفاح ولا الحلم مجرد غفوة ولا النهد مجرد بداية لرقص الاشتهاء ولا الأسوار مجرد موانع خرسانية تنتصب أمامنا، كل هذه التشابكات الواقعية يخيل إليّ. أن ''الجلاوي'' يصر عليها لا ليربك ''متلقية'' ويوقعه في دائرة الحيرة إنما يريده أن يتشارك معه في كتابة القصيدة وليستمتع بالركض خلفه في فضاء الدلالة، حيث ينتجها في شكل آخر وهنا تكمن منهجية الشاعر العارف بأدواته الفنية، يبدع بوعي جمالي بعيد عن سطحية الطرح والاهتراء والحشو الذي يدعي الإبداع مما يطفو على ساحة الشعر اليوم.


بالعودة إلى القصيدة.. تلتبس علينا أو تراوغنا لهجة ''الجلاوي'' في لعبها الجميل، حيث ''الأنا'' تكرر نفسها ضمن سياقات مضمونية في ظاهرها حلم نقترب منه وفي باطنه حقيقة وما كلمة ''القصيدة'' هنا في المقطع الأخير إلا عملية خلق يقصد منها الشاعر أن يضفي على ''القصيدة'' من داخلها شكلاً متأنسناً يتداخل في البنية الفنية العاملة، ليلقي مسؤولية حمل رسالة النص عليه ''هو'' الذي يقف على مساحة فاصلة ما بيننا وبين الشاعر وإليه نتوجه بالإدانة لارتكابه الغواية! ''الجلاوي'' في خطابه الشعري تقوده فلسفة ''جاك دريدا''، حيث البحث عن كينونة ما للغة تقود النص عبر دهاليز الفلسفة التي تبحث عن الله داخل اللغة!


قصيدة ''كتاب قرة العين'' تمضي في سياق الشك بحثاً عن حقيقة ما تخترق ماهية القصيدة بلهجة تركن إلى الغموض والحالة الصوفية المتسربة في مفاصل النص، فما هي بالضبط غائية ''التسبيح'' و''الطينة'' و''الأنوثة'' كمفردات داخل النص؟ ما الذي يجمعها غير توجه فلسفي في الكتابة الشعرية يعيد تركيب السياقات النصية بغية إثارة التساؤلات وإحداث بعض الإرباك المقصود كلعبة فنية.


العلاقة هنا.. تحميل النص أكثر من مضمون واحد يحفر في جسد النص، طبعاً هذا توجه حداثي لا نرفضه للشاعر أو نباركه، فالأمر يعود إليه في طبيعة تأثيث عالمه الشعري وفق خلفيته الثقافية والإبداعية. فالديوان قدم ضمن مناخاته المتنوعة القصيدة بروح متحفزة تواكب عصرها شكلاً ومضموناً يبحث عن تميزها.


نعم.. بدى لنا بعض ما قرأناه يتجه نحو الغموض العقيم، لكنما الشاعر بخطابه الشعري لا أعتقد انه يتجاهل ''متلقيه'' أو يتعالى عليه، ففي الكثير من محطات الديوان هناك حس إنساني تنتشر تشظياته الفكرية، التاريخية، والفلسفية ما يتطلب الوقوف عليها ودراسة معطياتها وهو ما لا تستطيع القراءة العابرة انجازه ويحتاج إلى توغل الدرس النقدي الممنهج.